أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي- صراع النفوذ والثروات ومستقبل غامض

لقد ظلّت الولايات المتحدة تفكر ملياً في الانسحاب من الأراضي الأفغانية منذ أمد بعيد، بيد أن التنفيذ السريع والحاسم لهذه الخطوة من قبل إدارة بايدن قد أحدث هزة عنيفة، لن تقتصر تداعياتها على أفغانستان والولايات المتحدة فحسب، بل ستمتد لتشمل المنطقة بأسرها والعالم أجمع.
إن ما نشهده في هذه الحقبة هو نشوء ديناميكية جديدة، يسعى فيها العالم جاهداً للبحث عن معالم جديدة للمشهد الدولي، تتجاوز فكرة الهيمنة الغربية المطلقة. ولا يسع المرء إلا أن يقر بالهزيمة التي منيت بها الولايات المتحدة - تلك القوة العظمى - أمام حركة توصف بأنها بدائية، وذلك وفقاً للمعايير الحضارية المعاصرة. وإن الشبكة المستحدثة من العلاقات الدولية، التي ستشارك فيها أفغانستان بقيادة حركة طالبان بعد خروجها من تحت عباءة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ستحدد بشكل جليّ حجم التحولات الطارئة على ميزان القوى على الصعيد الدولي.
من الجليّ بصورة قاطعة أن كلاً من الصين وروسيا تشعران بالابتهاج إزاء هذا التوازن المستجد للقوى، وتعتقدان بأنهما ستجنيان ثماراً جمة من الانسحاب الأميركي، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنهما ستكونان البديل الأمثل للولايات المتحدة، وذلك بحسب رؤية بعض المحللين.
في هذا المضمار، تبرز روسيا والصين كقوتين رئيسيتين تلوحان في الأفق عند استشراف مسارات تطور المشهد العالمي، بينما يتوقع ثلة من المراقبين استمرار هيمنة الولايات المتحدة، معتقدين أن الانسحاب الأميركي لم يكن سوى تكتيك سياسي، ومجرد مناورة لا تحمل في طياتها أي حقيقة. بيد أن هؤلاء الذين يتبنون هذا المنظور، يعتقدون في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة قد ألحقت ضرراً فادحاً بسمعتها ومكانتها، ضرراً يصعب جبره أو تلافيه.
في الواقع، يتعارض هذا التصور مع المنطق التاريخي الذي يحكم هيمنة القوى العظمى، إذ لا يمكن لدولة في مكانة الولايات المتحدة أن تقبل بمثل هذه الهزيمة المدوية، مهما كانت المكاسب المستقبلية التي قد تسعى إلى تحقيقها.
ويذهب مراقبون آخرون إلى القول بأن النصر الذي تحقق على حساب الولايات المتحدة كان من نصيب كل من الصين وروسيا، وليس من نصيب الشعب الأفغاني أو حركة طالبان. ومن الواضح بجلاء أن حركة طالبان لم تطرد الولايات المتحدة لتستبدلها بروسيا والصين كقوى غازية جديدة، لذلك تبدو هذه القراءة للأحداث بعيدة كل البعد عن الواقع الملموس. فلطالما كان تحرير البلاد من براثن الاحتلال هو الدافع الأسمى والمحفز الرئيسي لحركة طالبان، وبالتالي، فمن غير المتوقع على الإطلاق أن يتم استبدال الولايات المتحدة بالصين أو روسيا أو أي قوة أخرى.
ومما لا شك فيه أن كلاً من الصين وروسيا تشعران بالارتياح والسرور إزاء هذا التوازن الجديد للقوى، وتريان أنهما ستستفيدان أيما استفادة من الانسحاب الأميركي، غير أن هذا لا يعني بالضرورة أنهما ستكونان البديل المناسب للولايات المتحدة، كما يعتقد بعض المحللين.
ويُشاع أن أفغانستان تمتلك موارد طبيعية باطنية هائلة، وأن الصين لديها أطماع جمة في هذه الثروات. نعم، هذا صحيح. فكل طرف خطط للدخول إلى أفغانستان كان يضمر في نفسه طموحات للاستحواذ على هذه الموارد، لكن حتى هذه اللحظة، لم يتمكن أي طرف خارجي من تحقيق عوائد توازي حجم الإنفاق الهائل الذي تكبده في أفغانستان.
واعتباراً من هذه اللحظة الراهنة، يمكن للصين أو لأي قوة أخرى أن تبدي اهتماماً بتلك الموارد الجوفية الكامنة في أفغانستان، ولكن يجب على الجميع أن يدركوا بوضوح وجلاء أنه إذا كان الهدف هو الاستفراد بهذه الموارد، فإن ذلك لن يعود بالنفع على أي طرف كان.
وبطبيعة الحال، ستتمكن أفغانستان من تحقيق مكاسب معتبرة من خلال تشغيل وبيع مناجمها، ولكن الصين لن تكون قادرة بمفردها على الاستحواذ على كامل أصول التعدين. ولا ضير في الاستثمار في هذه الموارد بعيداً عن الأطماع والرغبة الجامحة في الاستيلاء على الثروات، خاصة وأن ذلك سيسهم في إنعاش البلاد وبناء نفسها من جديد. فهناك فرق شاسع وجوهري بين الاستفادة المتبادلة، وبين الغزو المباشر والاستيلاء الغاشم على الثروات.
لن تحتاج البلاد إلى أي طرف آخر عندما يتم تقييم الموارد الجوفية الهائلة والعمل بجد على استغلالها على الوجه الأمثل. فأفغانستان تمتلك مخزونات هائلة من الموارد تضاهي تلك التي تمتلكها دول الخليج أو تفوقها، وبمقدور الشعب الأفغاني استغلال هذه الموارد في أغراض التنمية من خلال عمليات الاستثمار والمشاريع المشتركة مع مختلف الدول الأخرى.
وإذا ما أحسنت أفغانستان استغلال هذه الثروات على النحو الأمثل، فستكون قادرة على وقف نزيف الهجرة الاقتصادية المتفاقم إلى الخارج، وربما تجتذب رؤوس الأموال من مختلف أصقاع العالم. ولكن حتى الآن، لم يتم تقييم السيطرة على هذه الموارد بسبب الحروب المستمرة والاضطرابات الداخلية المتواصلة.
وكان بإمكان الولايات المتحدة أن تستفيد من هذه الموارد من خلال التعامل مع أفغانستان في إطار اقتصادي يراعي حقوق الشعب الأفغاني، بدلاً من احتلال البلاد وتشريد شعبها. ولو فعلت ذلك، لما كانت مضطرة إلى تحمل تكاليف المشاريع الفاشلة والأوهام الزائفة. وقد أثبت الانسحاب الأميركي أنه لا يمكن لمحاولات فرض الهيمنة الثقافية عن طريق الاحتلال أن تغير شيئاً على أرض الواقع.
ولا يمكن للساسة أن يغيروا المجتمعات من خلال الجيوش والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية ووسائل الإعلام وضخ الأموال الهائلة، بل على العكس من ذلك، يمكن بهذه الوسائل تدمير المجتمعات في فترة وجيزة.
إذا قمت على سبيل المثال بتشييد مبنى فخم على حافة مجرى مائي، فلن يتطلب الأمر سوى هطول أمطار غزيرة حتى ينهار هذا المبنى، ثم يأتي الفيضان العارم ليدمر كل تلك الأوهام ويسحقها، وهو ما حدث تماماً مع الجيش الأفغاني المجهز والمدرب والذي بلغ تعداده 300 ألف جندي. فقد تم تشكيل ذلك الجيش على المجرى الذي تدفقت عبره آمال الشعب الأفغاني، فكانت النتيجة فيضاناً جارفاً اقتلع ذلك الوهم من جذوره.